ما يقوله علم النفس عن سنوات الطفولة
(السمات الذاتية)
يتميز الجنس البشرى بالنمو المتميز فى القدرات العقلية لأفراده حت تصل إلى مستويات رفيعة.(ومن هنا جاءت تسمية السلالة البشرية الحالية "بالإنسان العاقل -Homo sapiens").
وقد درس "جان بياجيه" عالم البيولوجى ومساعديه تطورات القدرات العقلية لدى عينة كبيرة من الأفراد، وتوصل إلى تدرج تلك التغيرات عبر ثلاث مراحل كبرى هى:
أ- مرحلة ما قبل العمليات العقلية الحقيقية (تحت مرحلة التفكير الحسى - حركى، يعقبها تحت مرحلة التفكير الحدسى) وتستمر من الميلاد حتى بداية السنة السابعة من عمره. ويعتمد فيها ذكاء الطفل على ما يخرج به من خبرات تجلبها له حواسه من مشاهدة الأشياء وفحصها ومتابعة مظاهر حركتها، ومما يخرج به بالحدس (الظن، التخمين) من متابعة للأحداث التى تجرى حوله. لذا فننصح الآباء بتوفير أكبر قدر من الخبرات الحسية والحركية له من خلال ألعاب متنوعة فى ألوانها، ملامسها، روائحها، الأصوات الصادرة عنها أو عن ارتطامها ببعضها وبالأرض، أنماط حركاتها، وتيسير ممارسة الحركات الرياضية الخفيفة له ليدرك قواعد التوازن البدنى خلال السكون والحركات المختلفة.
ب- مرحلة العمليات العقلية الحقيقية المعتمدة على المحسوسات، وتستمر معه من سن سبع سنوات حتى سن البلوغ الجنسى. وفيها يجرى عمليات عقلية ذات خصائص جيدة لكنه بحاجة إلى مساندة حسية تعينه على حسن الفهم، ومن هنا ننصح الآباء والمدرسين بضرورة الاستعانة المُعينات التعليمية التى تتضمن المثيرات التى تخاطب الحواس، وقد رتبها أحد علماء التربية "إدجار ديل" منذ سنوات عديدة ترتيباً تنازلياً تبعاً للجودة مبتدئاً بأهم تلك المُعينات ألا وهو الشرح على الشىء ذاته (سمكة، نبات معين، سيارة، أشكال هندسية مجسمة ... الخ)، فإن لم تتوفر فليكن على نموذج شغال لها، فإن لم يتيسر فليكن على رسوم ملونة بألوانها الطبيعية، فإن لم يوجد فليكن على رسم تخطيطى، فإن لم يمكن عمله فليكن بالشرح اللفظى فقط شفاهة أو كتابة وهذا أضعف المُعينات التعليمية وأسوءها.
كذلك ننصح الآباء بعدم اعتبار ارتفاع سعر أدوات اللعب معياراً لجودتها، وإنما جعل مدى ما تتيحه اللعبة للصغير من فرص واسعة للتفكير والعمل معياراً للجودة الحقيقية. فالقطار الذى يسير بالبطاريات على شريط تؤدى نهايته إلى بدايته أقل قيمة عن علبة تضم مجموعة من التروس والقضبان والصفائح المعدنية مع تصميمات هندسية مقترحة يحاول الصغير تنفيذها بتجميع تلك القطع المفككة مع تشجيعه على ابتكار المزيد من التصميمات لإثراء النشاط العقلى لديه (تركيز الانتباه، دقة اتباع التعليمات، التخيل، الابتكار ... الخ).
ج- مرحلة العمليات العقلية التجريدية، وتبدأ مع الصغير عندما يصل لسن المراهقة. وفيها يتمكن من استيعاب الموضوعات المجردة (Abstracts) من خلال الفهم وليس الحفظ الأصم رغم أن تلك الموضوعات ذات طابع نظرى وليس لها أساس حسّى مباشر، ومثالها مصطلحات: التقوى، الفضيلة، الورع، الشرف، الكرامة، العزة، الوطنية، الليبرالية، الرأسمالية، الجذر التربيعى للمقدار س، الجرام جزىء إحدى المواد، التذوق الفنى، البرمجيات ... الخ.
وفى هذه المرحلة العقلية الراقية والأعلى فى سلم التطور العقلى يمكن للفرد أن يتنبأ من أحداث الماضى والحاضر بأحداث المستقبل، فيضع أكثر من "سيناريو" لما يتوقع حدوثه فيما هو آتِ من الأيام. كذلك يستطيع أن يضع خطة أو أكثر لحل المسائل الدراسية والمشاكل الشخصية والمهنية. وفى هذه الخطط يمكنه أن يراعى الكثير من العوامل الموجودة والمحتمل تواجدها، فينطبق عليه قول الحكيم: "يحسب لرجله قبل الخطْوِ موضعها" تماماً كما تفعل الدول قبل إصدار أى بيان صحفى أو الإتيان بأى عمل عسكرى.
وقد أفاد بعض علماء النفس أن ذكاء الفرد لا يستقر عند سن الثامنة عشر كما هو معروف، وإنما يستمر هذا الذكاء- الذى أطلقوا عليه اسم "الذكاء السائل-Fluid Intelligence"- فى التحسن منتجاً نوعاً آخر من الذكاء أطلقوا عليه "الذكاء المتبلور-Crystallized Intelligence" والذى يفترضون بأنه يتضمن "حكمة العمر وخبرة الأيام".
"ورث فلان حب الشعر من والده الأديب المشهور فلان" و"ورث فلان حسن الخلق من جده الشيخ فلان"
و"ورثت فلانة حب الفن من والدتها الفنانة المشهورة فلانة" ... الخ
كل هذه المقولات خاطئة تماماً، فلا حب الشعر، ولاحسن الخلق، ولا الفن يُوّرث من الآباء أوالأمهات أو الأجداد للأبناء والأحفاد. والأصوب هو القول "اكتسب فلان أو فلانة حب الشعر أو حسن الخلق أو الفن من معايشتهم لوالديهم أو جدهم فحببوهم فيما اشتهروا به ويسّروا لهم طرق استيعاب وإتقان المهارات اللآزمة للنجاح فى تلك المجالات نتيجة لتوجيهاتهم المستمرة لهم، ولتشجيعهم على الإطلاع على الكتب والمجلات المتخصصة التى يقتنيها هؤلاء الآباء والأجداد فى بيوتهم وأحاديثهم مع زوارهم الذين من صنفهم حول تلك الأمور، فكانت النتيجة الطبيعية أن يتفوق هؤلاء البناء والأحفاد فى تلك المهارات مقارنة بنظرائهم فى السن الذين لم تتح لهم فرصة مماثلة. إذن فالمهارات والأخلاق والتذوق الفنى وكافة السلوكيات لا توّرث وإنما يتم تعلّمها واستيعابها والتدرب على إتقانها..
يرث الإنسان من أبائه وأجداده (لاحظ صيغة الجمع هنا وليس المفرد أو المثنى) الصفات المتعلقة بخصائصه الجسمية: كطول القامة أو قصرها، وكلون البشرة والعينين، ملامح الوجه، درجة المناعة الصحية ضد الأمراض. كذلك اتضح مؤخراً أن الفرد يرث من آبائه وأجداده "مستوى الاستثارة- Irritability" أى إلى أى مدى يتحمل المثيرات المنغصة .. كما يرث "المزاج - Temperament" عصابياً كان أو متنزناً، كما يرث مستوى الميل للاندفاع أو للترّوى. فقد اتضح أن صفة "الاندفاعية -Impulsiveness" هى من الموروثات، بل اتضح أن قابلية الشخص للتدخين والاستمتاع بوجود مكونات تدخين السجائر فى جسمه هى صفة موروثة أيضاً. ويتوالى اكتشاف العلماء الذين يشتغلون فى مجال الكشف عن التركيبات الوراثية للإنسان (بحوث الجينوم البشرى) أن المزيد من دوافع السلوك عند الإنسان هى ذات أصل وراثى. كل ماسبق قوله عن وراثة الصفات الجسمية وغيرها لا ينتقل إلى الأبناء من الوالدين وحدهما، وإنما يشترك الأجداد الحاليين والسابقين فى تناقل تلك الصفات جيلاً بعد جيل. صحيح أن بعض الصفات لا تكون ظاهرة (فتصنّف على أنها من "النمط الجينى - Genotype" لكنها لا تضمّحل ولا تزول، فالعوامل الوراثية أيضاً لا تفنى ولا تستحدث" بدليل أنها ستظهر مرة أخرى يوماً ما تحت ظروف معينة على أحد الأحفاد وحينها سوف تصنّف على أنها من "النمط الظاهرى - Phenotype". تلك الصفات الوراثية الجسدية والانفعالية تنتقل عبر الأجيال على أجسام عضوية ضئيلة الحجم جداً اسمها الموّرثات (الجينات - Genes) محمولة بدورها فى مجموعات كبيرة العدد جداً على أجسام عضوية أكبر حجماً وإن كانت فى حاجة إلى الاصطباغ بصبغات معينة ليمكن رؤيتها تحت ميكروسكوب شديد التكبير واسمها (الصبغيات - Chromosomes)، وهذه الصبغيات بما تحمله من موّرثات كائنة بأعداد زوجية محددة القيمة داخل كل نواة من أنوية كل خلية فى جسد الفرد. لذا كان من الخطأ مرة أخرى القول بأن فلانة ورثت فى "دمها" حب الفن، فلا الفن يورّث كما لا يكون التوريث أصلاً فى الدم، وإنما يكون التوريث فى كل خلايا الجسم طالما وُجدت الصبغيات بها. وقد تمكن العاملون فى بحوث "الجينوم البشرى" من معرفة الكثير من الموّرثات (الجينات) الموجودة على صبغيات أنوية خلايا الأجسام البشرية. وبالتالى معرفة ما هى الخصائص (ومن بينها القابلية للأمراض المختلفة) التى سيرثها أبناء وأحفاد كل من يتقدم للفحص الجينومى. ويحاولون دراسة كيفية انتزاع الموّرثات (الجينات) التى تحمل صفات سيئة من نواة الحيوان المنوى للزوج ومن نواة بويضة الزوجة قبل عمل التزاوج بينهما فى أنابيب المعامل بأسلوب "أطفال الأنابيب". ويفكر العلماء فى كيفية إضافة موّرثات تحمل صفات جيدة إلى ذلك الحيوان المنوى والبويضة لكى يكتسبها طفلهم. ومن بين الأفكار الغريبة التى تراود البعض منهم إكساب بعض المواليد صفة القدرة على القيام بعملية التمثيل الضوئى بمجرد شرب بعض المحاليل المخففة والتعرض بدون ملابس لأشعة الشمس لعدة ساعات ومن ثَّم عدم الحاجة لشراء الطعام!. وبالطبع لن يتأتى هذا إلاّ إذا تم نقل موّرثات للحيوان المنوى والبويضة للوالدين توّرث القدرة على تكوين الكلوروفيل بخلايا الجلد أو ما تحت الجلد مباشرة من طبقات سطحية كبديل للصبغيات القمحية أو سمراء اللون المألوفة لدى البشر. وإن كان الباحثون فى مجال الهندسة الوراثية النباتية قد نجحوا بالفعل من سنوات عديدة فى تجميع صفات جمالية أوغذائية أو تجارية بخلايا التكاثر بالكثير من نباتات المحاصيل ونباتات البساتين ثم زرعوها على نطاق واسع وصارت ضمن السلع التى تدر عائداً وفيراً - وإن كانت تلقى رفضاً شديداً من كثير من الناس - إلاّ أن الباحثين فى مجال الهندسة الوراثية البشرية لم يحققوا - ولو فى العلن - نفس هذا النجاح. فالقيود القانونية والأخلاقية والإنسانية والدينية تمنع الكثيرين من التوسع فى هذا الميدان. ولا يمارس شطحات الخيال فى هذا المجال إلاّ مؤلفو الكتب والروايات العلمية الخرافية (Science fiction)، ثم تتحول إلى أفلام لها صفة الإبهار وإن لم يكن لها صفة الالتزام التام بكل الأسس العلمية المعروفة حتى الآن. تلعب الظروف المحيطة بالفرد دوراً مكملاً ومنشّطاً أو مثبّطاً لما ورثه عن آبائه وأجداده من صفات، فالذى ورث عنهم صحة البدن لن يستمتع بهذه الصفة طويلاً إن حاصرته الميكروبات والملوثات البيئية المحيطة به، وإن كان ستتأخر إصابته بالمرض وستقل فترة رقاده به مقارنة بنظرائه الذين لم يرثوا تلك القدرة من صحة البدن. كذلك فالذى ورث ذكاءاً مرتفعاً يمكنه أن يصل لأعلى الدرجات المنزلية والعلمية طالما كانت البيئة المنزلية والمدرسية والاجتماعية توفر له المناخ الهادىء المشجع والإمكانات اللآزمة للدراسة. أما لو كانت على عكس ذلك فلن ينعم بالكثير من مزايا ذلك الذكاء الموروث، وقد يترك التعليم فى أى مرحلة من مراحله، أو يسوء توافقه مع الأهل والمدرسين فتحيطه المشاكل من كل ناحية فينشغل عن دراسته ويفشل فيها. لكل هذا ولمثله فقد توصل العلماء إلى أن كلاّ من الوراثة والبيئات المحيطة بالفرد - لاحظ صيغة الجمع حيث تحيط بكل فرد بيئة بشرية وبيئة نفسية وبيئة طبيعية مناخية وجغرافية وبيئة مادية ... الخ - كلها تتفاعل مع بعضها البعض نتيجة مؤثرات تفعل فعلها فى تشكيل خصائص شخصية الفرد: أى جسمه وعقله ووجدانه وأخلاقه. ويكون تأثير الوراثة أشد على خصائصه الجسمية ويتدرج متناقصاً نحو أخلاقه تبعاً للترتيب المذكور أعلاه، فى حين يتدرج تأثير البيئات فى شدته عكسياً مع تأثير الوراثة تبعاً لذات الترتيب. وكلما تقدم السن بالفرد ووقع تحت تأثير بيئات جديدة نشأ تفاعل جديد بين ناتج التفاعل السابق وبين تأثير البيئات الجديدة، فيعاد تشكيل شخصيته من جديد. وهذا يجعل من شخصية كل فرد خاصة الاجتماعيين والرحالة والذين يطلعون على الجديد - كياناً ديناميكياً متغيراً وليس كياناً استاتيكياً جامداً