• اكناوة

    طائفـة كنـاوة

    تأتي أهمية الحديث عن طائفة «كناوة». ينطق الحرف الأول كما تنطق الجيم بالتعبير المصري في المغرب من أهمية الطقوسالاحتفالية والسحرية التي يقوم بها أتباعها المنتشرون بالآلاف عبر مدن وقرى المغرب، خلال مناسبات سنوية خاصة, طقوس تجتر بقايا المعتقدات الوثنية الإفريقية والبربرية والعربية ما قبل إسلامية، في إطار مغلق، ولذلك تعتبر بالنسبة رجال الدين «طائفة الشيطان».

    ورغم أن في المغرب طوائف أخرى (عيساوة، وحمادشة، الخ) إلا أن «كناوة» تبقى الأهم، من حيث عدد أتباعها في مدن وقرى المغرب، ومن حيث ارتباطها في العمق بموضوعنا، المعتقدات السحرية في المغرب. إنها طائفة ستظل، رغم كل ما قيل وكتب عنها، على مستوى كبير من الغموض.

    الأصــل

    في الأصل، ينحدر «كناوة» الحقيقيون في المغرب من سلالة العبيد الذين تم استيرادهم خلال العصر الذهبي للإمبراطورية المغربية (نهايات القرن 16 الميلادي) من السوداء الغربية، التي كانت تسمى آنذاك السودان الغربي (دولة مالي الحالية، على الخصوص).

    و تسمية كناوة هي تحريف لحق الاسم الأصلي الذي كان هو «كينيا» (غينيا)، أو عبيد غينيا كما كانوا دائما يسمون، قبل اندماجهم التام في المجتمع المغربي، وما تزال «الطريقة الكناوية» متواجدة في العديد من المدن والقرى المغربية، حتى اليوم، خصوصا في مدن مراكش و الصويرة و الرباط و مكناس.

    «إن الوضعية القاسية لزنوج الشمالية - يقول عالم الاجتماع الفرنسي إميل درمنغن - هي التي شجعت على ظهور زوايا خاصة بهم، والحفاظ على طقوسهم السودانية الأصول (السودان الغربي الذي يعني دول الساحل الإفريقي الحالية) ، واستمرار الأنشطة الطقوسية لتلك الزوايا هو الذي شجع على الحفاظ على الوعي العرقي بين الزنوج والتعاضد المتبادل بينهم».

    لقد حمل العبيد الأفارقة شمال (المغرب الجزائر خصوصا) معتقداتهم الوثنية في آلهتهم وفي الأرواح البدائية التي لم تلبث أن امتزجت بغيرها من المعتقدات المحلية العربية والبربرية في الجان، ولدفع كل شبهة قد تحوم بمعتقداتهم وتحسبهم خارج ملة , انتسب كناوة (روحيا على الأقل) الى واحد من أوائل معتنقي وهو بلال الذي كان زنجيا مثلهم.

    و رغم ممارستهم لطقوس غريبة ، سنأتي على ذكر أهمها لاحقا، فان أتباع الطائفة الكناوية لا يعتبرون أنفسهم خارجين عن تعاليم الدين الحنيف,,, بل إنهم على العكس من ذلك تماما، يبدأون طقوسهم ويختمونها بالصلاة على النبي وذكر الله في كل تراتيلهم,,.

    و تحظى مدينة الصويرة بمقام المدينة الروحية للطائفة داخل المغرب، فقد كان الميناء البحري للمدينة منذ القرن 17، مركزا تجاريا مهما على ساحل المحيط الأطلسي، ونقطة تبادل تجاري مع تمبكوتو، عاصمة السوداء المسلمة آنذاك، ومنها كان العبيد يفدون مع الذهب الى المغرب.

    و يعتبر ضريح «سيدي بلال» الموجود غرب مدينة الصويرة المرجع الأعلى، ومقام «الأب الروحي» لكناوة، وداخل ضريح ذلك الولي،، الذي يحسب في عداد الأولياء مجهولي النسب والسيرة في المغرب، توجد الزاوية التي تحتضن في العشرين من شهر شعبان الموسم السنوي للطائفة الكناوية وسط طقوس غريبة، يتخللها الرقص الهائج المحموم لزمرة الأتباع القادمين من كل مكان داخل وخارج المغرب، فلا ينبغي أن ننسى أن في الجزائر أيضا ديوان «سيدي بلال» الذي يعد قبلة الطائفة هناك,.

    و على إيقاع الموسيقى القوية والحارة للمجموعات المنتسبة إلي الطائفة، تخرج نخبة من الإتباع في جولات بين المدن لجمع الهبات والصدقات للزاوية, بلباسها الفلكلوري المميز ذي الألوان الحية، خصوصا الحمراء والزرقاء.

    الموسيقــى

    إن شهرة «كناوة» كموسيقيين تجاوزت الحدود المغربية، لتعانق العالمية منذ شرع في تنظيم مهرجان سنوي لـ «كناوة وموسيقى العالم» بمدينة الصويرة في شهر يونيو, والسر يكمن في أنها ليست مجرد موسيقى عادية، بل هي موسيقى ذات إيقاعات قوية محملة بثقل الأساطير والمعتقدات الموغلة في القدم، ومشحونة بالإرث الحضاري الإفريقي والبربري والعربي.

    إنها تراث موسيقي يناجي الأرواح الخفية ويغازلها، سليل عذابات الزنوج العبيد في دهور القهر البائدة,,, يتوسل بالإيقاعات والألوان والقرابين و إحراق البخور، وكل الوسائط الخفية الأخرى، كي تعالج الممسوسين بالجان, وتعرف بأدوات خاصة، هي: الكنبري أو السنتير (عبارة عن آلة وترية من ثلاثة حبال تصنع من معي المعاز)، والكنكة (الطبل)، والغيطة (المزمار) ثم القراقش (صنوج حديدية).

    و العزف الكناوي له هندامه الخاص، كما طقوسه المرافقة التي من دون توافرها لا يكون الحفل الطقوسي مكتمل الشروط والمقاصد.

    و من أهم الشروط التي تتم مراعاتها احترام الألوان الخاصة بـ «الملوك»، أي ملوك الجان الذين يؤمن بهم كناوة وخصوصا اللونين الأحمر والأزرق,,, حتى لا يغضبوا ملوك الخفاء، فيتحول الحفل الطقوسي مدعاة لانتقامهم الرهيب, فإغضاب «لالة ميرة» - مثلا - التي تحسب في عداد «ملوكهم» المقدسين، يكون مدعاة للإصابة بالارتعاش والشحوب والجنون، حسب معتقداتهم.

    الحفـــل

    و يسمى الحفل الذي يقام على شرف ملوك وملكات الجان، أو التعبير بالأصح بعضها، التي تحظى بالتقدس من طائفة كناوة (سيدي شمهاروش، لالة ملكية، لالة ميرة، لالة جميلة، سيدس حمو، سيدي ميمون,,,)، تسمى الدردبة أو ليلة الدردبة، أو بشكل مختصر «الليلة» فقط, لكن ثمة مناسبات أخرى في يومية الطائفة تستغل لاستحضار الأرواح «العليا»، لغرض توسل تدخلها لقضاء بعض المطالب ذات الطابع السحري.

    فخلال عيد الأضحى الذي يسميه المغاربة «العيد الكبير»، يعتقد كناوة في أن لدم أضحية العيد خصائص سحرية تجعلها قربانا مقبولا من «الملوك»، وتستغل الشوافة الكناوية (قارئة الحظ) المناسبة لأجل التقرب ملكة الجان لالة ميرة كي تمنحها القدرة السحرية على النظر في عالم الغيب، فالجان بحسب المعتقد يطلعون على محتوى اللوح المحفوظ الذي دونت فيه مصائر البشر.

    و تقوم عملية التقرب من ملكة الجان على مجموعة من الطقوس، فيتم تبخير مكان الذبح بالبخور السبعة التي تروق روائحها للملوك، ويعد طبق من عناصر سحرية متنوعة (مواد غذائية، حناء، ماء الورد,,,,) يقبل الملوك على أكلها بنهم,,, وبمجرد ذبح خروف العيد يقدم قليل منه حارا للشوافة كي تشرب منه، ويمرر أحد شيوخ الطريقة الكناوية الدم على جبهتها وهي جلوس.

    ليلــة الدردبــة

    ليلة الدردبة هي أهم طقوس كناوة على الإطلاق، وحسب علماء الانثربولوجيا فان لها شبها بحفلات الزار في مصر وبعض الاحتفالات الطقوسية لدى الفودو في البرازيل وجزر الانتيل بأميركا اللاتينية, وتنظيم الدردبة داخل الدور السكنية الخاصة لبعض أعضاء الطائفة في مواعيد سنوية محددة، غالبا ما تكون خلال النصف الثاني من شهر شعبان أو في أوقات أخرى من الأشهر القمرية.

    و اختيار شهر شعبان له علاقة بالاعتقاد في الجان الذي يشكل أساس طقوس ومعتقدات كناوة, فحسب المعتقد، تتحدد مصائر الناس للعام الموالي خلال ليلة منتصف شهر شعبان من كل عام, ويلعب الجان في تحديد مصير البشر دورا مهما، ولذلك ينبغي التوسل لملوكهم (ملوك الجان) لأجل تحقيق أمنيات العلاج وزوال العكس والنجاح في الأعمال، وغيرها من الأغراض قبل أن يسجن الجان جميعهم طيلة النصف الثاني من شعبان، فكائنات الخفاء محكوم عليها - بحسب المعتقد - أن تقضي الفترة التي تسبق شهر الصيام محبوسة في معازلها الأسطورية، ولن تعانق حريتها من جديد إلا في ليلة القدر.

    قمــة الاحتفــال

    «الليلة» في التعبير الكناوي هي قمة الاحتفال بملوك الجان البيض الذين يسمون في لغة الطائفة الخاصة (جيلالة), وتأخذ طابعا يمزج بين التراتيل الدينية التي تمتدح الله والرسول، جانب الطقوس والترتيل الخفية.

    و تمر «الليلة» بثلاث مراحل

       مرحلة الطواف بالأضحية/ القربان والتي تكون غالبا عبارة عن تيس أسود, وتسمى هذه المرحلة (العدة) وتكون مفتوحة، إذ يسمح خلالها بالحضور لغير المنتسبين الطريقة الكناوية, و بها تنطلق الليلة على إيقاع دقات الطبول وأنغام المزامير و القراقب

              مرحلة التصعيد الإيقاعي تمهيدا للهياج الجماعي للحضور وهي - إضافة المرحلة الأخيرة - «مغلقة»، ولا يسمح خلالها بالحضور لإتباع الطائفة، دون غيرهم.

        المرحلة الثالثة، وهي الحاسمة في الليلة، يكون خلالها الهياج الجماعي قد بلغ أوجه, وتكون خلالها الملوك قد نزلت بين المحتفلين بها.

    الانطــلاق

    تنطلق ليلة «الدردبة» بعد منتصف الليل، بتنسيق بين «معلم (تنطق بتسكين الميمين) كناوي «مصحوب بفرقته و«شوافة كناوية» (الشوافة تسمى لدى كناوة الجزائريين: التي تأتي الكلام، بحسب درمنغن) ومساعدتها، وجميعهم من أتباع الزاوية, في مرحلة الطواف بالقربان، تعزف الفرقة بالمزامير وتضرب الطبول.

    و يبدو دور المعلم ضابطا لإيقاع الحفل حيث يأتمر العازفون بتوجيهاته, ويقومون خلال المرحلة الأولى باستعراض مهارتهم في الرقص الإيقاعي والحركات البهلوانية، فيبدون وكأن قوى خفية تحركهم

    و حين يأخذ الإيقاع في التصاعد بالتدريج، يغادر الغرباء الفضوليون الحفل الطقوسي ليتركوه لأهله, فهم يدركون حتى دون أن يطلب منهم الانسحاب، إن المرحلة التالية سوف تشهد دخول كناوة في علاقة حميمة مع «ملوكهم» وقد يكون في حضورهم خطر عليهم.

    و الموسيقى التي تعزف ليلة الدربة ليست مجرد إيقاعات راقصة قوية، كما قد يبدو لغير العارف بخبايا كناوة، بل إن المقاطع الراقصة تتوزع وفق نسق يجعل الفرقة الكناوية تعزف تباعا الإيقاعات الخاصة بملوك الجان السبعة الذين يقدسهم أفراد الطائفة، بحيث يستطيع الممسوسون من الجان أن يجدوا ضالتهم في أحدها, فإذا كانت إحداهن ممسوسة بأذى «الملكة ميرة»، مثلا، فان الفرقة ما أن تعزف لحن تلك الملكة حتى تنهض الممسوسة، كما لو أنها مدفوعة من قوة خفية، فتشرع في إطلاق ضحكات هستيرية مخيفة، ثم تبدأ في الجذب المحموم مع الصراخ والتمرغ على الأرض, وتطلب من المحيطين بها أن يعطوها «قاقة» التي تعني في لغة الأطفال الحلوى، فيسرعون مناولتها شيئا حلوا، لان الملكة هي التي طلبته في الحقيقة, وبعد أن تسقط الممسوسة وهي تتلوى تسارع إليها معاونات العرافة لرمي غطاء من الثوب فوق جسمها المطروح أرضا, وينبغي أن يكون الثوب في لون الملكة التي تكون آنذاك بين الحضور

    إن «ميرة» في معتقد العامة هي جنية من الملوك تصيب النساء بلوثة الغيرة و الحسد، وبشكل خاص منهن الشابات المتزوجات حديثا، واللواتي يغيظها جمالهن, و لذلك، فإن المرأة الجميلة التي لا تشعر بنفسها على ما يرام تعتبر أن أذى ميرة أصابها، وتشجعها على الاعتقاد في ذلك الشوافة الكناوية.

    و ليلة «الدردبة» هي ليلة «الطلاعة/الشوافة/العرافة» (وجميعها أسماء للساحرة الكناوية بحسب المناطق المغربية)، بامتياز

    و خلال المراحل المتقدمة من «الليلة»، عندما يصل إيقاع الحفل أوجه، وتعزف فرقة كناوة موسيقى الملوك، يبدأ الرقص الطقوسي طريق الصعود نحو مرحلة الهياج التي ستتوج، والحفل بـ «نزول الملوك» بين الراقصين، تكون البخور السبعة أطلقت سحائب شفافة من دخان له رائحة نفاذة وزكية, يشرع بعض أتباع «المعلم» في الطواف بين الراقصين برايات تحمل الألوان السبعة لـ «الملوك» من اجل دعوتها النزول بين المحتفلين بها

    و أثناء ذلك، يأتي الدور على العرافة التي يفترض أنها اقرب الحضور للقوى الخفية المدعوة للنزول

    يبدأ الطقس السحري باختلاج حاد يمتلك أطرافها، كما لو كانت مصابة بالصرع, فيفهم الحاضرون أن إحدى الملكات بدأت في الحلول في جسد الساحرة، فتزيد مساعدتها من البخور في المجامر، كي لا ينقطع الدخان المحبب الرائحة لدى الملوك، في ملء الفضاء المسكون بروح الأسطورة,,, ثم يقمن بتغطيتها بأثواب من مختلف الألوان: ثوب أسود، أصفر، أزرق,,, أن تهدى الساحرة، فيعرفن من خلال اللون الأخير هوية الملكة التي حلت في جسد الساحرة

    و تبدأ العرافة الكناوية في «النطق» بنبؤاتها، فتنصح هذه بأن تلبس اللون الأحمر، لان الملك الأحمر هو الذي يعاكس سعادتها, وتنصح تلك الأخرى بأن تقيم حفل الحضرة على شرف الملكة «عايشة» أو«جميلة», إن هي أرادت أن تتزوج ابنتها العانس، أو أن تلد مولودا ذكرا، الخ، ثم تنتهي التنبؤات، التي يعتقد في أن الملكة هي التي كانت توزعها بين الحاضرات على لسان العرافة

    و ينتهي الحفل بذبح تيس اسود اللون قربانا في ليلة الملوك, التيس الأسود وليس غيره من قرابين الدم الأخرى هو الذي ترضى بقبوله الملوك عن طائفة كناوة, وقبل أن يُذبح، يقوم المعاونون بتقديم الحليب للحيوان كي يشرب منه، و يرش بماء الورد قبل أن يقطع الذباح الكناوي حنجراته,,, فتشرب العرافة من الدم الحار المنساب من القربان، قبل أن يغمس شيخ الطريقة الكناوية أصابع يده اليمنى ويطلي بالدم جبهتها.

    و يحمل التيس المذبوح الى بيت شيخ الطريقة الكناوية كي يطبخ في الصباح مع كسكس «مسوس» بدون ملح

    و سيقدم لحلقة ضيقة من المحظوظين والمحظوظات الذين سيناولون بركة الدردبة, وطبعا يطبخ العام بالقربان من غير ملح لأن الجان سيأكلون منه، إذ المعروف أن الجان لا تحب الملح، في معتقد المغاربة

    و في الساعات الأولى من الصباح، تنسحب الملوك الى مخابئها الأسطورية، وينسحب أتباع الطائفة طلبا للراحة بعد ليلة متعبة, وينتظر الأوفر حظا من بينهم أن يقاسموا ملوك الخفاء أكلة الكسكس، وفي ظنهم أنهم نالوا ما يكفي من الحماية من أذى عامة الجان، بعد أن نالوا مباركة ملوكها السبعة

---------------------------------------------